فصل: تفسير الآية رقم (19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ‏}‏ أي ما يوحى إلي من القرآن، وقيل‏:‏ الضمير للرسول، وفيه أن الظاهرة لو كان المعنى عليه كنت ‏{‏مِنْ عِندِ الله‏}‏ لا سحراً ولا مفتري كما تزعمون ‏{‏وَكَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ الواو للحال والجملة حال بتقدير قد على المشهور من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرط اهتماماً بالتسجيل عليهم بالكفر أو للعطف على ‏{‏كَانَ‏}‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 52‏]‏ وكذا الواو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل‏}‏ إلا أنها تعطفه بماعطف عليه على جملة ما قبله، فالجمل المذكورات بعد الواوات ليست متعاطفة على نسق واحد بل مجموع ‏{‏شَهِدَ‏}‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ معطوف على مجموع ‏{‏كَانَ‏}‏ وما معه، مثله في المفردات ‏{‏هُوَ الاول والاخر والظاهر والباطن‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏ والمعنى أن اجتمع كونه من عند الله تعالى مع كفركم واجتمع شهادة الشاده فإيمانه مع استكباركم عن الايمان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في جواب الشرط وفي مفعولي ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ عائد على ما عاد عليه اسم كان وهو ما يوحي من القرآن أو الرسول، وعن الشعبي أنه للرسول، ولعله يقول في ضمير ‏{‏كَانَ‏}‏ أيضاً كذلك وكذا في ضمير ‏{‏على مِثْلِهِ‏}‏ لئلا يلزم التفكيك‏.‏ وأنت تعلم أن الظاهر رجوع الضمائر كلها للقرآن، وتنوين ‏{‏شَاهِدٌ‏}‏ للتفخيم، وكذا وصفه بالجار والمجرور أي وشهد شاهد عظيم الشأن من بني إسرائيل الواقفين على شؤن الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها في الحقيقة عين ما فيه كما يعرب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 196‏]‏ على وجه، وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَفِى الصحف الاولى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 18‏]‏ والمثلية باعتبا رتأديتها بعبارات أخرى أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر، وقيل‏:‏ على مثل شهادته أي لنفسه بأنه من عند الله تعالى كأنه لإعجازه يشهد لنفسه بذلك، وقيل مثل كناية عن القرآن نفسه للمبالغة، وعلى تقدير كون الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فسر المثل بموسى عليه السلام‏.‏

والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَئَامَنَ‏}‏ أي بالقرآن للسببية فيكون إيمانه مترتباً على شهادته له بمطابقته للوحي، ويجوز أن تكون تفصيلية فيكون إيمانه به هو الشهادة له، والمعنى على تقدير أن يراد فآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ظاهر بأدنى التفاوت، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستكبرتم‏}‏ أي عن الايمان معطوف على ما أشرنا إلليه ‏{‏شَهِدَ شَاهِدٌ‏}‏ وجوز كونه معطوفاً على ‏{‏مِن‏}‏ لأنه قسيمه ويجعل الكل معطوفاً على الشرط، ولا تكرار في ‏{‏استكبرتم‏}‏ لأن الاستكبار بعد الشهادة والكفر قبلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أي الموسومين بهذا الوصف، استئناف بياني في مقام التعليل للاستكبار عن الايمان، ووصفهم بالظلم للاشعار بعلة الحكم فتشعر هذه الجملة بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم وهو دليل جواب الشرط ولذا حذف ومفعولاً ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ محذوفان أيضاً لدلالة المعنى عليهما، والتقدير أرأيتم حالكم إن كان كذا فقد ظلمتم ألستم ظالمين، فالمفعول الأول حالكم والثاني ألستم ظالمين، والجواب فقد ظلمتم، وقال ابن عطية‏:‏ في ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا تقتضي مفعولاً، ويحتمل أن تكون جملة ‏{‏إِن كَانَ‏}‏ الخ سادة مسد مفعوليها، وهو خلاف ما قرره محققو النحاة في ذلك‏.‏

وقدر الزمخشري الجواب ألستم ظالمين بغير فاء‏.‏ ورده أبو حيان بأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جواباً للشرط لزمها الفاء فإن كانت الأداة الهمزة تقدمت على الفاء وإلا تأخرت، ولعله تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقدره بعضهم أفتؤمنون لدلالة ‏{‏فَئَامَنَ‏}‏ وقدره الحسن فمن أضل منكم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 52‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ وقيل‏:‏ التقدير فمن المحقق منا ومنكم ومن المبطل‏؟‏ وقيل‏:‏ تهلكون، وقيل‏:‏ هو ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ أي فقد آمن محمد صلى الله عليه وسلم به أو الشاهد واستكبرتم أنتم عن الايمان، وأكثرها كما ترى‏.‏

والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور‏.‏ وابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن سيرين‏.‏ والضحاك‏.‏ وعكرمة في رواية ابن سعد‏.‏ وابن عساكر عنه‏.‏ وفي «الكشف» في جعله شاهداً والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية، وتحقيقه أنه نزل ما سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف ‏{‏شَهِدَ‏}‏ وما بعده على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ‏}‏ ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 90‏]‏ أي أنذر قريشاً مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية، ومصب الإلزام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَئَامَنَ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس، ففي الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الايمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الايمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالماً بما في التوراة؛ وهذا يصلح جواباً مستقلاً من غير نظر إلى الأول فافهم، وقول من قال‏:‏ الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ الآية عبد الله خصوصاً، وعلى الوجهين لا بد من تأويل من قول سعد، وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ‏}‏ بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل‏:‏ هو النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى‏.‏

وتعقب قوله‏:‏ إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكيتها، وكون الشاهد ابن سلام المكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام‏.‏ أخرج أبو يعلى‏.‏ والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏ انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه الصلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال‏:‏ أبيتم فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال‏:‏ كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل‏:‏ أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود‏؟‏ قالوا‏:‏ والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال‏:‏ فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا‏:‏ كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شراً فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وابن سلام فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل‏}‏ الآية، وروى حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر، ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر، وهو أيضاً ظاهر في كون النزول بعد الشهادة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال‏:‏ يا رسول الله ابعث إليهم يعني اليهود فاجعل بينك وبينهم حكماً من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة والسلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه ملياً فقال لهم‏:‏ اختاروا رجلاً من أنفسكم يكون حكماً بيني وبينكم قالوا‏:‏ فإنا قد رضينا بميمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون‏:‏ لنشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ الآية، وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادة الشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام، وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره، ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان، والذي رأيته في الاستيعاب في ترجمة عبد الله ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله والله تعالى أعلم‏.‏

ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن أنه صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صابح دولة فأصحبوه عليه السلام سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة بمكة ولا تردد إليها، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المدينة وأسلم إذ قدمها عليه الصلاة والسلام أو قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بعامين على ما حكاه في «البحر» عن الشعبي، فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله تعالى، وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن طائفة مثلها‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم أنه كان يدعي مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول‏:‏ إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد، وأيد عدم إرادة الخصوص بأن ‏{‏شَاهِدٌ‏}‏ في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم، وأنا أقول‏:‏ بكون التنوين في ‏{‏شَاهِدٌ‏}‏ للتعظيم وبمدنية الآية ونزولها في ابن سلام، والخطابات فيها مطلقاً لكفار مكة، وربما يظن على بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك، وهم المعنيون أيضاً بالذين كفروا في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ إلى آخره، وهو حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به‏.‏ وفيه تحقيق لاستكبارهم أي وقال كفار مكة‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل كما سمعت في ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ هي لام المشافهة والتبليغ والتفتوا في قولهم‏:‏ ‏{‏لَّوْ كَانَ‏}‏ أي ما جاء به صلى الله عليه وسلم من القرآن، وقيل‏:‏ الايمان ‏{‏خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ولولاه لقالوا‏:‏ سبقتمونا بالخطاب أو لما سمعوا أن جماعة آمنوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه أولئك الذين بلغنا إيمانهم‏.‏

وتعقب بأن هذا ليس من مواطن الالتفات، وكونهم قصدوا تحقير المؤمنين بالغيبة لا وجه له، وكون المشافهين طائفة من المؤمنين والمخبر عنهم طائفة أخرى خلاف الظاهر، فالأولى كونها للتعليل وقالوا ذلك لما رأوا أن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ضعفاء كعمار‏.‏ وصهيب‏.‏ وبلال‏.‏ وكانوا يزعمون أن الخير الديني يتبع الخير الدنيوي وأنه لا يتأهل للأول إلا من كان له القدح المعلى من الثاني، ولذا قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ وخطؤهم في ذلك مما لا يخفى‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال‏:‏ كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمة أسلمت قبله يقاله لها زنيرة فكان رضي الله تعالى عنه عنه يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون‏:‏ لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله تعالى في شأنها ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الآية، ولعلهم لم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضاً‏.‏ وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث، وقال أبو المتوكل‏:‏ أسلم أبو ذر ثم أسلمت غفار فقالت قريش ذلك، وقال الكلبي‏.‏ والزجاج‏.‏ قال ذلك بنو عامر بن صعصعة‏.‏ وغطفان‏.‏ وأسد‏.‏ وأشجع لما أسلم‏.‏ أسلم‏.‏ وجهينة‏.‏ ومزينة‏.‏ وغفار‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وأصحابه منهم، ويلزم عليه القول بأن الآية مدنية وعدها في المستثنيات أو كون ‏{‏قَالَ‏}‏ فيها كنادي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب الاعراف‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 48‏]‏ وهذا كما ترى والمعول عليه ما تقدم ‏{‏وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ‏}‏ أي بالقرآن، وقيل‏:‏ بالرسول صلى الله عليه وسلم، و‏{‏إِذْ‏}‏ على ما اختاره جار الله ظرف لمقدر دل عليه السابق واللاحق أي وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم واستكبارهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ أي يتحقق منهم هذا القول والطعن حيناً فحيناً كما يؤذن بذلك صيغة المضارع مسبب عن العناد والاستكبار، وإذا جاز مثل حينئذ الآن أي كان ذلك حينئذ واسمع الآن بدليل قرينة الحال فهذا أجوز، والإشارة ءلى القرآن العظيم، وقولهم‏:‏ ذلك فيه كقولهم‏:‏

‏{‏أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ ولم يجوز أن يكون ‏{‏فَسَيَقُولُونَ‏}‏ عاملاً في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال، وإنما لم يجعله من قبيل ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاغلال‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 70، 71‏]‏ نظماً للمستقبل في سلك المقطوع كما اختاره ابن الحاجب في الأمالي لأن المعنى ههنا كما في «الكشف» على أن عدم الهداية محقق واقع لا أنه سيقع البتة، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ بعدما بين استكبارهم وعنادهم كيف ينص على أنهم مجادلون معرضون عن القرآن وتدبره غير مهتدين ببشائره ونذره‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الظرف معمول لسيقولون والفاء لا تمنع عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما ذكره الرضي، والتسبب المشعرة به عن كفرهم، و‏{‏سَيَقُولُونَ‏}‏ بمعنى قالوا، والعدول إليه للإشعار بالاستمرار‏.‏ وتعقب بأن ذلك مع السين بعيد، وقيل‏:‏ إذ تعليلية للقول‏.‏ وتعقب بأنه معلل كما آذنت به الفاء، وقدر بعضهم العامل المحذوف قالوا ما قالوا، ورجحه على التقدير السابق وليس براجح عليه كما لا يخفى على راجح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِن قَبْلِهِ‏}‏ أي من قبل القرآن وهو خبر مقدم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابُ موسى‏}‏ قدم للاهتمام، وجوز الطبرسي كون ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ معطوفاً على ‏{‏شَاهِدٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ والظرف فاصل بين العاطف والمعطوف، والمعنى وشهد كتاب موسى من قبله، وجعل ضمير ‏{‏قَبْلِهِ‏}‏ للقرآن أيضاً وليس بشيء أصلاً، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إَمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏ حال من الضمير في الخبر أو من ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ عند من جوز الحال من المبتدأ، وقيل‏:‏ حال من محذوف والعامل كذلك أي أنزلناه إماماً وهو كما ترى‏.‏

والمعنى وكائن من قبله كتاب موسى يقتصي به في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدي بالإمام ورحمة من الله سبحانه لمن آمن به وعمل بموجبه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا‏}‏ أي القرآن الذي يقولون في شأنه ما يقولون ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ مبتدأ خبر، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مُّصَدّقُ‏}‏ نعت ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ وهو مصب الفائدة أي مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية، وقد قرىء ‏{‏مُّصَدّقٌ لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ والجملة عطف على الجملة قبلها وهي حالية أو مستأنفة، وأياً ما كان فالكلام رد لقولهم‏:‏ ‏{‏هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ وإبطال له، والمعنى كيف يصح كونه إفكاً قديماً وقد سلموا كتاب موسى والقرآن مصدق له متحد معه في المعنى أو لجميع الكتب الإلهية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّسَاناً عَرَبِيّاً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ المستتر في ‏{‏مُّصَدّقُ‏}‏ أو منه نفسه لتخصيصه بالصفة، وعامله على الأول ‏{‏مُّصَدّقُ‏}‏ وعلى الثاني ما في هذا من معنى الفعل، وفائدة هذه الحال مع أن عربيته أمر معلوم لكل أحد الأشعار بالدلالة على أن كونه مصدقاً كما دل على أن حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله تعالى‏.‏

هذا على القول بأن الكلام مع اليهود ظاهر، وأما على القول بأنه مع كفار مكة فلأنهم قد يسلمون التوراة ونحوها من الكتب الإلهية السابقة وإن كانوا أحياناً ينكرون انزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام مطلقاً‏.‏ وفي «الكشف» وجه تقديم الخبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى‏}‏ أن إرسال الرسل وإنزال الكتب أمر مستمر كائن من عند الله تعالى فمن قبل إنزال القرآن إماماً ورحمة كان إنزال التوراة كذلك، وليس من تقديم الاختصاص بل لأن العناية والاهتمام بذكره، ولما ألزم الكفار بنزول مثله وشهادة أعلم بني إسرائيل ذكر على سبيل الاعتراض من حال كتاب موسى عليه السلام ما يؤكد كونه من عند الله تعالى وأن ما يطابقه يكون من عنده سبحانه لا محالة وتوصل منه إلى أن القرآن لما كان مصدقه بل مصدق سائر الكتب السماوية وجب أن يؤمن به ويتلقى بالقبول؛ وهو بالحقيقة إعادة للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دل فيه على أن كونه مصدقاً كانف شهد شاهد بني إسرائيل أو لا، وإن قلي‏:‏ نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ‏}‏ لا من بعده لكان وجهاً موفى فيه حق الاختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى‏.‏

وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية‏.‏

وجوز كون ‏{‏لّسَاناً‏}‏ مفعولاً لمصدق والكلام بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقه إياه بموافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقاً وإعجازه، وجوز على المفعولية كون ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، ويراد بلساناً عربياً القرآن، ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم، والأصل وهو مصدق لساناً عربياً، وقيل‏:‏ هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى‏.‏ وقرأ الكلبي ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ‏}‏ بفتح الميم ‏{‏كِتَابُ موسى‏}‏ بالنصب، وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعل مقدر وكذا ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى‏.‏

‏{‏لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ متعلق بمصدق وفيه ضمير لكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء‏.‏ وشيبة‏.‏ والأعرج‏.‏ وأبي جعفر‏.‏ وابن عامر‏.‏ ونافع‏.‏ وابن كثير في رواية ‏{‏لّتُنذِرَ‏}‏ بتاء الخطاب فإنه لا يصح بدون تكلف لغير الرسول، والتعليل صحيح على الكل، ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز ‏{‏وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ‏}‏ عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل، وقال الزمخشري‏:‏ وتبعه أبو البقاء هو في محل النصب معطوف على محل ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ لأنه مفعول له، وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر، والنصب ناشيء من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه، وحكى في إعرابه أوجهاً فقال‏:‏ قيل معطوف على ‏{‏مُّصَدّقُ‏}‏ وقيل‏:‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى، وقيل‏:‏ منصوب بفعل محذوف معطوف على ‏{‏ينذر‏}‏ أي ويبشر بشرى، وقيل‏:‏ منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى، والظاهر أن ‏{‏وَسَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ في مقابلة ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنين‏.‏ وفي «شرح الطيبي» إنما عدل عن العادلين إلى ‏{‏المحسنين‏}‏ ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا‏:‏ ربنا الله ثم استقاموا، وقيل‏:‏ ‏{‏المحسنين‏}‏ دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا‏}‏ إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي الرتبي فالعمل متراخى الرتبة عن التوحيد، وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من لحوق مكروه ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ من فوات محبوب، والمراد استمرار النفي، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت ولعل وكان وإن كان كانت أسماؤها موصولات، وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسيره ما ذكرنا فليراجع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بماذكر من الوصفين الجليلين ‏{‏أصحاب الجنة خالدين فِيهَا‏}‏ حال من المستكن في ‏{‏أصحاب‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَاء‏}‏ منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء، والجملة استئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة‏}‏ في معنى جزيناهم ‏{‏بِمَا كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ من الحسنات القلبية والقالبية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا‏}‏ نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعْدَ الصدق الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏‏.‏

‏{‏وإحساناً‏}‏ قيل‏:‏ مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى الزمنا، وقيل‏:‏ منصوب على المصدر على تضمين ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا‏}‏ معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً، وقيل‏:‏ صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقيل‏:‏ مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما، وقال ابن عطية‏:‏ إنه منصوب على المصدر الصريح و‏{‏بوالديه‏}‏ متعلق بوصينا، أو به وكأنه عنى يحسن إحساناً وهو حسن، لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحساناً بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول‏:‏ أحسنت لزيد ولا تقول‏:‏ أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه، وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصاً بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري، وقد قالوا‏:‏ إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياء إليه‏.‏

والجار والمجرور محمول عليه، وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة ك ‏{‏لا تأخذكم بهما رأفة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ ومعرفة نحو ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ وتأويل كل ذلك تكلف، وأيضاً قوله‏:‏ لأن أحسن لا يتعدى بالباء الخ فيه منع ظاهر، وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال‏:‏ وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحساناً، ولعل التنوين للتفخيم أي إحساناً عظيماً، والإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ من قولهم‏:‏ أرض واصية متصلة النبات، ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به، وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها، وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز وجل، والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جداً، وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏حَسَنًا‏}‏ بضم الحاء وإسكان السين أي فعلاً ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه، وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى ‏{‏إحسانا‏}‏ فالأقوال السابقة تجري فيه‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والسلمي‏.‏ وعيسى ‏{‏حَسَنًا‏}‏ بفتح الحاء والسين، وعن عيسى ‏{‏حَسَنًا‏}‏ بضمهما‏.‏

‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً‏}‏ أي ذات كره أو حملاً ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد‏.‏

والحسن‏.‏ وقتادة، وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تحد له ثقلاً‏.‏ وقرأ شيبة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والحرميان ‏{‏كَرْهاً‏}‏ بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف، وقيل‏:‏ المضموم اسم والمفتوح مصدر‏.‏

وقال الراغب‏:‏ قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع‏.‏ وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال‏:‏ لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة‏.‏ وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها، وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراآت بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه ‏{‏وَحَمْلُهُ وفصاله‏}‏ أي مدة حمله وفصاله، وبتقدير المضاف يصح حمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏ على المبتدأ من غير كره‏.‏

والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته‏.‏ وقرأ أبو رجاء‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ ويعقوب‏.‏ والجحدري ‏{‏وفصاله‏}‏ أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناءً ومعنى؛ وقيل‏:‏ الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل، والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهى بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وفي الوصف تطويل، والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها، ولذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب، فقد روي «أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله من أبر‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أباك» وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك‏.‏ واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء، قال جالينوس‏:‏ كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة‏.‏ وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك‏.‏

وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه؛ وقال ابن سينا في الشفا‏:‏ بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولداً نبتت أسنانه، وحكي عن أرسطو أنه قال‏:‏ أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر، ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر؛ وتحقق ارتباط حكم النسب بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لما يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا، ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به ‏{‏حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله ‏{‏وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ الظاهر أنه غير بلوغ الأشد، وقال بعضهم‏:‏ إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد‏.‏

وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جداً خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد، وفي الحديث «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح» وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار» وعلى ذلك قول الشاعر‏:‏

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن *** له دون ما يهوى حياءً ولا ستر فدعه

ولا تنفس عليه الذي مضى *** وإن جر أسباب الحياة له العمر

وقيل‏:‏ لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين، وذهب الفخر إلى خلافه مستدلاً بأن عيسى ويحيى عليهما السلام أرسلا صبيين لظواهر ما حكي في الكتاب الجليل عنهما، وهو ظاهر كلام السعد حيث قال‏:‏ من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام إلى آخر ما قال‏.‏

وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى ‏{‏قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ الكتاب وَجَعَلَنِى نَبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏، ‏{‏وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12‏]‏ بأنهما أخبار عما سيحصل لهما لا عما حصل بالفعل، ومثله كثير في الآيات وغيرها، والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوغ‏.‏ وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن اتباع الصغير وإن كبر فضلاً كالرقيق والأنثى، وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى‏}‏ أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعاً به راغباً في تحصيله‏.‏ وقرأ البزي ‏{‏أَوْزِعْنِى‏}‏ بفتح الياء ‏{‏أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ‏}‏ أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل، وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذٍ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم، وقيل‏:‏ إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى‏.‏

واعترض على التعليل بابن عمر‏.‏ وأسامة بن زيد‏.‏ وغيرهما، ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب‏:‏ إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلى الله عليه وسلم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبىء وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال‏:‏ ‏{‏رَبّ أَوْزِعْنِى‏}‏ الخ ‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه‏}‏ التنوين للتفخيم والتكثير، والمراد بكونه مرضياً له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الاعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالماً من غوائل عدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما، فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك‏:‏ وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية ‏{‏وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى‏}‏ أي اجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم كما في قوله‏:‏

فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها *** لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي

على أن ‏{‏إصلاح‏}‏ نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان الظاهر وأصلح لي ذريتي، وقيل‏:‏ عدي بفي لتضمنه معنى اللطف أي ألطف بي في ذريتين، والأول أحسن، قال ابن عباس‏:‏ أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال‏.‏ وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه، ودعا أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏إصلاح لِى فِى ذُرّيَّتِى‏}‏ فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ‏{‏إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ عما لا ترضاه أو يشغل عنك ‏{‏وَإِنّى مِنَ المسلمين‏}‏ الذين أخلصوا أنفسهم لك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏، والجمع لأن المراد به الجنس المتصف بالمعنى المحكي عنه، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو درجته أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة‏.‏

‏{‏الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَلِمُواْ‏}‏ من الطاعات فإن المباح حسن لا يثاب عليه ‏{‏وَنَتَجَاوَزُ عَن‏}‏ لتوبتهم المشار إليها بأني تبت وإلا فعند أهل الحق أن مغفرة الذنب مطلقاً لا تتوقف على توبة ‏{‏سيئاتهم فِى أصحاب الجنة‏}‏ كائنين في عدادهم منتظمين في سلكهم، وقيل‏:‏ ‏{‏فِى‏}‏ بمعنى مع وليس بذاك ‏{‏وَعْدَ الصدق‏}‏ مصدر لفعل مقدر وهو مؤكد لمضمون الجملة قبله، فإن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَتَقَبَّلُ وَنَتَجَاوَزُ‏}‏ وعد منه عز وجل بالتقبل والتجاوز‏.‏

‏{‏الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ على ألسنة الرسل عليهم السلام‏.‏ وقرىء ‏{‏يُتَقَبَّلْ‏}‏ بالياء والبناء للمفعول و‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ بالرفع على النيابة مناب الفاعل وكذا ‏{‏يتجاوز عن سيآتهم‏}‏‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ وعيسى بالياء فيهما مبنيين للفاعل وهو ضميره تعالى شأنه و‏{‏مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ‏}‏ بالنصب على المفعولية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏والذى قَالَ لوالديه‏}‏ عند دعوتهما إياه للإيمان ‏{‏أُفّ لَّكُمَا‏}‏ صوت يصدر عن المرء عند تضجره وفيه قرآات ولغات نحو الأربعين، وقد نبهنا على ذلك في سورة الإسراء، واللام لبيان المؤفف له كما في ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ والموصول مبتدأ خبره ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ والمراد به الجنس فهو في معنى الجمع، ولذا قيل‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ وإلى ذلك أشار الحسن بقوله‏:‏ هو الكافر العلق لوالديه المنكر للبعث، ونزول الآية في شخص لا ينافي العموم كما قرر غير مرة، وزعم مروان عليه ما يستحق أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وردت عليه عائشة رضي الله تعالى عنها‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن عبد الله قال‏:‏ إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال‏:‏ إن الله تعالى قد أرى لأمير المؤمنين يعني معاوية في يزيد رأياً حسناً أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر‏.‏ وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر‏:‏ أهرقلية إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان‏:‏ ألست الذي قال لوالديه أف لكما فقال عبد الرحمن‏:‏ ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك فسمعت عائشة فقالت‏:‏ مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا كذبت والله ما فيه نزلت نزلت في فلان بن فلان‏.‏

وفي رواية تقدمت رواها جماعة وصححها الحاكم عن محمد بن زياد أنها كذبته ثلاثاً ثم قالت‏:‏ والله ما هو به تعني أخاها ولو شئت أن اسمي الذي أنزلت فيه لسميته إلى آخر ما مر، وكان ذلك من فضض اللعنة إغاظة لعبد الرحمن وتنفيراً للناس عنه لئلا يلتفتوا إلى ما قاله وما قال إلا حقاً فأين يزيد الذي تجل اللعنة عنه وأين الخلافة‏.‏

ووافق بعضهم كالسهيلي في الإعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم وكان له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره والإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعير بما كان يقول ‏{‏أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ‏}‏ ابعث من القبر بعد الموت‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وعاصم‏.‏ وأبو عمرو في رواية وهشام ‏{‏أتعداني‏}‏ بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وقرأ نافع في رواية‏.‏ وجماعة بنون واحدة، وقرأ الحسن‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو جعفر بخلاف عنه، وعبد الوارث عن أبي عمرو‏.‏ وهارون بن موسى عن الجحدري، وبسام عن هشام ‏{‏لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِى‏}‏ بنونين من غير إدغام ومع فتح الأولى كأنهم فروا من اجتماع الكسرتين والياء ففتحوا للتخفيف، وقال أبو حاتم‏:‏ فتح النون باطل غلط، وقال بعضهم‏:‏ فتح نون التثنية لغة رديئة وهون الأمر هنا الاجتماع، وقرأ الحسن‏.‏

وابن يعمر‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن مصرف‏.‏ والضحاك ‏{‏أَخْرَجَ‏}‏ مبنياً للفاعل من الخروج ‏{‏وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى‏}‏ أي مضت ولم يخرج منها أحد ولا بعث فالمراد إنكار البعث كما قيل‏:‏

ما جاءنا أحد يخبر أنه *** في جنة لما مضى أو نار

وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ أراد وقد خلت القرون من قبلي مكذبة بالبعث، فالكلام كالاستدلال على نفي البعث‏.‏

‏{‏وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله‏}‏ أي يقولان‏:‏ الغياث بالله تعالى منك، والمراد إنكار قوله واستعظامه كأنهما لجآ إلى الله سبحانه في دفعه كما يقال‏:‏ العياذ بالله تعالى من كذا أو يطلبان من الله عز وجل أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه من إنكار البعث ‏{‏وَيْلَكَ ءامِنْ‏}‏ أي قائلين أو يقولون له ذلك، وأصل ‏{‏وَيْلٌ‏}‏ دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعاراً بأن ما هو مرتكب له حقيق بأن يهلك مرتكبه وأن يطلب له الهلاك فإذا أسمع ذلك كان باعثاً على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه، وقيل‏:‏ إن ذلك لأن فيه إشعاراً بأن الفعل الذي أمر به مما يحسد عليه فيدعى عليه بالثبور فإذا سمع ذلك رغب فيه، وأياً ما كان فالمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ أي البعث، وأضاف الوعد إليه تعالى تحقيقاً للحق وتنبيهاً على خطئه في إسناد الوعد إليهما‏.‏ وقرأ الأعرج‏.‏ وعمرو بن فائد ‏{‏ءانٍ‏}‏ بفتح الهمزة على تقدير لأن أو آمن بأن وعد الله حق، ورجح الأول بأن فيه توافق القراءتين ‏{‏فَيَقُولُ‏}‏ مكذباً لهما ‏{‏مَا هذا‏}‏ الذي تسميانه وعد الله تعالى ‏{‏إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ القائلون ذلك، وقيل‏:‏ أي صنف هذا المذكور بناءً على زعم خصوص ‏{‏الذى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏ وليس بشيء‏.‏

‏{‏الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ وهو قوله تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ وقد مر تمام الكلام في ذلك‏.‏ ورد بهذا على من زعم أن الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر لأنه رضي الله تعالى عنه أسلم وجب عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، ومن حق عليه القول هو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبداً‏.‏

وقيل‏:‏ الحكم هنا على الجنس فلا ينافي خروج البعض من أحكامه الأخروية، وقيل‏:‏ غير ذلك مما لا يلتفت إليه‏.‏

‏{‏فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ في مقابلة ‏{‏فِى أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏ فهو مثله إعراباً ومبالغة ومعنى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنَ الجن والإنس‏}‏ بيان للأمم ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ جميعاً ‏{‏كَانُواْ خاسرين‏}‏ قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤوس أموالهم باتباع الشيطان، والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف‏.‏ وقرأ العباس عن أبي عمرو ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بفتح الهمزة على تقدير لأنهم‏.‏ واستدل بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ‏}‏ الخ على أن الجن يموتون قرناً بعد قرن كالإنس‏.‏ وفي «البحر» قال الحسن في بعض مجالسه‏:‏ الجن لا يموتون فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلّ‏}‏ من الفريقين المذكورين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏ وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ وإن شئت فقل في ‏{‏الذين قالوا ربنا الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 13‏]‏ و‏{‏الذي قال لوالديه أف‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏درجات مّمَّا عَمِلُواْ‏}‏ أي من جزاء ما عملوا، فالكلام بتقدير مضاف، والجار والمجرور صفة ‏{‏درجات‏}‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية أو ابتدائية و‏{‏مَا‏}‏ موصولة أي من الذي عملوه من الخير والشر أو مصدرية أي من عملهم الخير والشر، ويجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ تعليلية بدون تقدير مضاف والجار والمجرور كما تقدم‏.‏ والدرجات جمع درجة وهي نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود ودركاً إذا اعتبرت بالحدور، ولهذا قيل‏:‏ درجات الجنة ودركات النار‏.‏

والتعبير بالدرجات كما قال غير واحد على وجه التغليب لاشتمال ‏{‏كُلٌّ‏}‏ على الفريقين أي لكل منازل ومراتب سواء كانت درجات أو دركات، وإنما غلب أصحاب الدرجات لأنهم الأحقاء به لا سيما، وقد ذكر جزاؤهم مراراً وجزاء المقابل مرة ‏{‏وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم‏}‏ أي جزاء أعمالهم والفاعل ضميره تعالى‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ والأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والأخوان‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ ونافع بخلاف عنه ‏{‏لنوفيهم‏}‏ بنون العظمة، وقرأ السلمي بتاء فوقية على الإسناد للدرجات مجازاً ‏{‏كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بنقص ثواب وزيادة عقاب، وقد مر الكلام في مثله غير مرة، والجملة حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل‏:‏ وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم فعل ما فعل من تقدير إلا جزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار‏}‏ أي يعذبون بها من قولهم‏:‏ عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به وهو مجاز شائع، وذهب غير واحد إلى أنه من باب القلب المعنوي والمعنى يوم تعرض النار على الذين كفروا نحو عرضت الناقة على الحوض فإن معناه أيضاً كما قالوا‏:‏ عرضت الحوض على الناقة لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك ليميل به إلى المعروض أو يرغب عنه لكن لما كان المناسب هو أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه ويحرك نحو وههنا الأمر بالعكس لأن الحوض لم يؤت به وكذا النار قلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار، وفي الانتصاف أن كل قولهم‏:‏ عرضت الناقة على الحوض مقلوباً فليس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار‏}‏ كذلك لأن الملجىء ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الحوض حقيقة، وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذٍ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره كقولك‏:‏ عرضت الأسرى على الأمير، وربما يقال‏:‏ لا مانع من تنزيلها منزلة المدرك إن لم تكن حينئذٍ مدركة وكذا تنزيل الحوض منزلته حتى كأنه يستعرض الناقة كما قال أبو العلاء المعري‏:‏

إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت *** عن الماء فاشتاقت إليها المناهل

وبعد ذلك قد لا يحتاج إلى اعتبار القلب، وقال أبو حيان‏:‏ لا ينبغي حمل القرآن على القرآن إذ الصحيح فيه أنه مما يضطر إليه في الشعر، وإذا كان المعنى صحيحاً واضحاً بدونه فأي ضرورة تدعو إليه‏؟‏ والمثال المذكور لا قلب فيه أيضاً، فإن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض‏.‏ وابن السكيت في كتاب التوسعة ذهب إلى أن عرضت الحوض على الناقة مقلوب والأصل إنما هو عرضت الناقة على الحوض وهو مخالف للمشهور‏.‏ وأنت تعلم مما ذكرنا أولاً أن سبب اعتبارهم القلب في المثال كون المناسب في العرض أن يؤتي بالمعروض عند المعروض عليه وأن الأمر في عرضت الحوض على الناقة بالعكس، وتفصيل الكلام في ذلك على وجه يعرف منه منشأ الخلاف أن العرض مطلقاً لا يقتضي ذلك وإنما المقتضى له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض، ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعروض يتحرك إلى المعروض عليه قال إنه الأصل، ومن لم ينظر إلى الاعتبارين وقال العرض إظهار شيء لشيء قال إن كلاً من القولين على الأصل، وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا الاعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس‏.‏

والظرف منصوب بقول محذوف مقوله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طيباتكم‏}‏ إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم ‏{‏فِى حياتكم الدنيا‏}‏ باستيفائها ‏{‏واستمتعتم بِهَا‏}‏ فلم يبق لكل بعد شيء منها، وهو عطف تفسير لأذهبتم، وقرأ قتادة‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والحسن‏.‏ والأعرج‏.‏ وابن كثير ‏{‏أَذْهَبْتُمْ‏}‏ بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام‏.‏ وابن كثير في رواية، وعن هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف، والاستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون‏}‏ أي الهوان وكذلك قرىء ‏{‏بِمَا كُنتُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏ بغير استحقاق لذلك، وقد مر بيان سر ‏{‏فِى الارض‏}‏ ‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ‏}‏ أي تخرجون من طاعة الله عز وجل أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين، وفي «البحر» أريد بالاستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب، وقرىء ‏{‏تَفْسُقُونَ‏}‏ بكسر السين وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف، أخرج سعيد بن منصور‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عمر أن عمر رضي الله تعالى عنه في يد جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه درهماً فقال ما هذا الدرهم‏؟‏ قال‏:‏ أريد أن أشتري به لأهلي لحماً قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئاً اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طيباتكم حياتكم الدنيا واستمتعتم بِهَا‏}‏‏.‏

وأخرج ابن المبارك‏.‏ وابن سعد‏.‏ وأحمد في الزهد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وأبو نعيم في «الحلية» عن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري فكان له في كل يوم خبز يلت فربما وافقناه مأدوماً بزيت وربما وافقناه مأدوماً بسمن وربما وافقناه مأدوماً بلبن وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها وربما وافقنا اللحم الغريض أي الطري وهو قليل قال وقال لنا عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ إني والله ما أجهل عن كراكر واسنمة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قوماً بأمر فعلوه فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا واستمتعتم بِهَا‏}‏، والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسنمة جمع سنام معروف والصلاء بالكسر والمد الشواء، والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضاً، وقيل‏:‏ هي الحملان المشوية، وقيل‏:‏ اللحم المشوي المنضج وأنشدوا لجرير‏:‏

يكلفني معيشة آل زيد *** ومن لي بالصلائق والصناب

وأخرج أحمد‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهده من أهله بفاطمة وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله تعالى عنها فقدم من غزاة له فأتاها فإذا بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضلة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما فقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ‏"‏ والمسح بكسر فسكون ثوب من عشر غليظ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو إطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز‏.‏

قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك معروفة بين الأمة‏.‏ وفي «البحر» بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا‏.‏ فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه ‏{‏فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون‏}‏ ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب، هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالاً وأشد قوة وأعظم جاهاً منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر‏}‏ لكفار مكة ‏{‏أَخَا عَادٍ‏}‏ هوداً عليه السلام ‏{‏إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ‏}‏ بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم ‏{‏بالاحقاف‏}‏ جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها السحر من بلاد اليمن قاله ابن زيد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عمان ومهرة، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام، وقال ابن إسحاق‏:‏ مساكنهم من عمان إلى حضرموت؛ وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت ارم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إرم وبيان الحق فيها‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَلَتِ النذر‏}‏ أي الرسل كما هو المشهور، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر‏.‏

وجوز كون ‏{‏النذر‏}‏ جمع نذير بمعنى الإنذار فيكون مصدراً وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به‏.‏ وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه ‏{‏مِن بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ أي من قبله عليه السلام ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ أي من بعده وقرىء به ولولا ذلك لجاز العكس، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه‏.‏ وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه، فمعنى ‏{‏مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ من بعد إنذاره، وعطف ‏{‏مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ أي من بعده على ما قبله إما من باب‏:‏

علفتها تبناً وماءً بارداً *** وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه؛ وقيل إنه مشاكلة، وقيل‏:‏ إنه من قبيل الاستعارة بالكناية، وإما لإدخال الآتي في سلك الماضي قطعاً بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجوز أن يقال‏:‏ المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين، والجملة إما حال من فاعل ‏{‏أُنذِرَ‏}‏ أي إذ أنذر معلماً إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بإعلامه إياهم، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏ الآية، ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل، وهي حال أيضاً على تفسير ابن عباس، وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله، وإما اعتراض بين المفسر أعني ‏{‏جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ وبين المفسر أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل‏:‏ واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيهاً على أنه إنذار ثابت قديماً وحديثاً اتفقت عليه الرسل عليهم السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر‏}‏ ويؤكد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنذَرَ قَوْمَهُ‏}‏ ولذلك توسط، وهو أيضاً مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالاً فإنه حينئذ قيد تابع، وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في «الكشف»، وجوز بعضهم العطف على ‏{‏أُنذِرَ‏}‏ أي واعلمهم بذلك وهو كما ترى، وجعلت ‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر، وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف جر مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله‏.‏

‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ صفة ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ وعظمه مجاز عن كونه مهولاً لأنه لازم له، وكون اليوم مهولاً باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

صفة ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ وعظمه مجاز عن كونه مهولاً لأنه لازم له، وكون اليوم مهولاً باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم ‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا‏}‏ استفهام توبيخي ‏{‏لِتَأْفِكَنَا‏}‏ أي لتصرفنا كما قال الضحاك من الإفك بمعنى الصرف، وقيل‏:‏ أي لتويلنا بالإفك وهو الكذب ‏{‏عَنْ ءالِهَتِنَا‏}‏ أي عن عبادتها ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ من معاجلة العذاب على الشرك في الدنيا ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في وعدك بنزوله بنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا العلم‏}‏ أي بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك ‏{‏عَندَ الله‏}‏ وحده لا علم لي بوقت نزوله، والكلام كناية عن أنه لا يقدر عليه ولا على تعجيله لأنه لو قدر عليه وأراده كان له علم به في الجملة فنفى علمه به المدلول عليه بالحصر نفي لمدخليته فيه حتى يطلب تعجيله من الله عز وجل ويدعو به‏.‏

وبهذا التقرير علم مطابقة جوابه عليه السلام لقولهم‏:‏ ‏{‏ائتنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏ فيأتيكم به في وقته المقدر له ‏{‏وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ‏}‏ من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إذ لم تنتهوا عن الشرك، وقرأ أبو عمرو ‏{‏أُبَلّغُكُمْ‏}‏ من الإبلاغ‏.‏

‏{‏ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ‏}‏ شأنكم الجهل ومن آثار ذلك أنكم تقترحون على ما ليس من وظائف الرسل من الاتيان بالعذاب، والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً‏}‏ فصيحة أي فأتاهم فلما رأوه، وضمير النصب قيل راجع إلى ‏{‏مَا‏}‏ في ‏{‏بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏ وكون المرئي هو الموعود باعتبار المآل والسببية له وإلا فليس هو المرئي حقيقة، وجوز الزمخشري أن يكون مبهماً يفسره ‏{‏عَارِضاً‏}‏ وهو إما تمييز وإما حال، ثم قال‏:‏ وهذا الوجه أعرب أي أبين وأظهر لما أشرنا إليه في الوجه الأول من الخفاء وأفصح لما فيه من البيان بعد الإبهام والإيضاح غب التعمية‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون في باب رب نحو ربه رجلاً لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد وبئس غلاماً عمرو، وأما أن الحال توضح المبهم وتفسره فلا نعلم أحداً ذهب إليه، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميراً ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه، وأنت تعلم جلالة جار الله وإمامته في العربية، والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء، ومنه قول الشاعر‏:‏

يا من رأى عارضاً أرقت له *** بين ذراعي وجبهة الأسد

وقول الأعشى‏:‏

يا من رأى عارضاً قد بت أرمقه *** كأنما البرق في حافاته الشعل

‏{‏مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ‏}‏ أي متوجه أوديتهم وفي مقابلتها وهي جمع واد، وأفعلة في جمع فاعل الاسم شاذ نحو ناد وأندية وجائز للخشبة الممتدة في أعلى السقف وأجوزة والإضافة لفظية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا‏}‏ ولذلك وقعاً صفتين للنكرة وأطلق عليها الزمخشري مجازية ووجه التجوز أن هذه الإضافة للتوسع والتخفيف حيث لم تفد فائدة زائدة على ما كان قبل فكما أن إجراء الظرف مجرى المفعول به مجاز كذلك إجراء المفعول أو الفاعل مجرى المضاف إليه في الاختصاص ولم يرد أنها من باب الإضافة لأدنى ملابسة‏.‏

‏{‏بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ‏}‏ أي من العذاب والكلام على إضمار القول قبله أي قال هود بل هو الخ لأن الخطاب بينه وبينهم فيما سبق ويؤيده أنه قرىء كذلك وقدره بعضهم قل بل هو الخ للقراءة به أيضاً والاحتياج إلى ذلك لأنه إضراب ولا يصلح أن يكون من مقول من قال هذا عارض ممطرنا وقدر البغوي قال الله بل هو الخ وينفك النظم الجليل عليه كما لا يخفى‏.‏ وقرىء ‏{‏بَلِ مَا استعجلتم‏}‏ أي بل هو، وقرأ قوم ‏{‏مَا استعجلتم‏}‏ بضم التاء وكسر الجيم‏.‏

‏{‏رِيحٌ‏}‏ بدل من ‏{‏مَا‏}‏ أو من ‏{‏هُوَ‏}‏ أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو هو ريح ‏{‏فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ صفة ‏{‏رِيحٌ‏}‏ لكونه جملة بعد نكرة وكذا قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏تُدَمّرُ‏}‏ أي تهلك ‏{‏كُلّ شَىْء‏}‏ من نفوسهم وأموالهم أو مما أمرت بتدميره ‏{‏بِأَمْرِ رَبّهَا‏}‏ ويجوز أن يكون مستأنفاً، وقرأ زيد بن علي ‏{‏تُدَمّرُ‏}‏ بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم، وقرىء كذلك أيضاً إلا أنه بالياء ورفع ‏{‏كُلٌّ‏}‏ على أنه فاعل ‏{‏يدمر‏}‏ وهو من دمر دماراً أي هلك، والجملة صفة أيضاً والعائد محذوف أي بها أو الضمير من ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا‏}‏ ويجوز أن يكون استئنافاً كما في قراءة الجمهور وأراد البيان أن لكل ممكن وقتاً مقتضياً منوطاً بأمر بارئه لا يتقدم ولا يتأخر ويكون الضمير من ‏{‏رَبُّهَا‏}‏ لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عز وجل ما لا يخفى والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم‏}‏ فصيحة أي فجأتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وجعلها بعضهم فاء التعقيب على القول بإضمار القول مسنداً إليه تعالى وادعى أنه ليس هناك قول حقيقة بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم وحصول دمارهم من غير ريث وهو كما ترى، وقرأ الجمهور ‏{‏لاَّ ترى‏}‏ بتار الخطاب ‏{‏إِلاَّ مساكنهم‏}‏ بالنصب، والخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية تنبيهاً على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى إلا مساكنهم أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبو رجاء‏.‏ ومالك بن دينار بخلاف عنهما‏.‏ والجخدري‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ والسلمي ‏{‏لاَّ ترى‏}‏ بالتاء من فوق مضمومة ‏{‏إِلاَّ مساكنهم‏}‏ بالرفع وجمهور النحاة على أنه لا يجوز التأنيث مع الفصل بالا إلا في الشعر كقول ذي الرمة‏:‏

كأن جمل هم وما بقيت *** إلا النحيزة والألواح والعصب

وقول الآخر وعزاه ابن جني لذي الرمة أيضاً‏:‏

برى النحز والاجرال ما في غروضها *** وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وبعضهم يجيزه مطلقاً وتمام الكلام فيه في محله، وقرأ عيسى الهمداني ‏{‏لاَ يرى‏}‏ بضم الياء التحتية ‏{‏إِلاَّ مساكنهم‏}‏ بالتوحيد والرفع وروى هذا عن الأعمش‏.‏ ونصر بن عاصم، وقرىء ‏{‏لاَّ ترى‏}‏ بتاء فوقية مفتوحة ‏{‏إِلاَّ مساكنهم‏}‏ مفرداً منصوباً وهو الواحد الذي أريد به الجمع أو مصدر حذف مضافه أي آثار سكونهم ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع ‏{‏نَجْزِي القوم المجرمين‏}‏ أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ الآية أول ما عرفوا أنه عذاب ما رأوا ما كان خارجاً من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً لهم أنين فأمر الله تعالى الريح فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم‏}‏‏.‏

وروى أن أول من أبصر العذاب امرأة منهم رأت ريحاً فيها كشهب النار، وروى أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع، وعن ابن عباس أنه عليه السلام اعتزل وم معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين به الجلود وتلذه الأنفس، وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وكانت كما أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير عن عمرو بن ميمون تجيء بالرجل الغائب، ومر في سورة الأعراف مما يتعلق بهم ما مر فارجع إليهم إن أردته، ولما أصابهم من الريح ما أصابهم كان صلى الله عليه وسلم يدعو إذا عصفت الريح‏.‏

أخرج مسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وعبد بن حميد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال‏:‏ اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلى الله عليه وسلم وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت سرى عنه فسألته فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا أدري لعله كما قال قوم عاد ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ مكناهم‏}‏ أي قررنا عاداً وأقدرناهم، و‏{‏مَا‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيمَا إِن مكناهم فِيهِ‏}‏ موصولة أو موصوفة و‏{‏ءانٍ‏}‏ نافية أي في الذي أوفى شيء ما مكنا فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏ ولم يكن النفي بلفظ ‏{‏مَا‏}‏ كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى، ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ماما على أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فراراً من كراهة التكرار، وعابوا على المتنبي قوله‏:‏

لعمرك ماما بان لضارب *** بأقتل مما بان منك لعائب

أي ما الذي بان الخ، يريد لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب وذلك للضارب، وكان يسعه أن يقول‏:‏ إن مابان، وادخال الباء للنفي لا للعمل على أن اعمال إن قد جاء عن المبرد، قيل‏:‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ شرطية محذوفة الجواب والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم، وقيل‏:‏ إنها صلة بعدما الموصولة تشبيهاً بما النافية وما التوقيتية، فهي في الآية مثلها في قوله‏:‏

يرجى المرىء ما أن لا يراه *** وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه، وكونها نافية هو الوجه لأن القرآن العظيم يدل عليه في مواضع وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث على الاعتبار ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً‏}‏ ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شؤون منعمها عز وجل ويداوموا على شكره جل شأنه ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ‏}‏ حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل ‏{‏وَلاَ أبصارهم‏}‏ حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المرسومة في صحائف العالم ‏{‏وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ‏}‏ حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ أي شيئاً من الإغناء، و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة للتوكيد والتنوين للتقليل‏.‏

وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل، و‏{‏مَا‏}‏ في ‏{‏مَا أغنى‏}‏ نافية وجوز كونها استفهامية‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة ‏{‏مِنْ‏}‏ في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح‏.‏ ورد بأنهم قالوا‏:‏ تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والنهي والاستفهام، وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر، وأيضاً مسموعهم من الرسل متحد‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم‏}‏ ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أغنى‏}‏ وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازاً لاستواء مئدى الظرف والتعليل في قولك‏:‏ ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه، وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى كاد يلحق بمعانيهما الوضعية ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنَّا مِن *الصادقين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏‏.‏